بنغازي 27 مايو 2025 (الأنباء الليبية) -بأصابعها فتحت حقيبتها المتدلية على جنبها واخرجت المفتاح وفتحت مكتبها، دخلت وجلست على مقعدها مع دخول أحد الموظفين طالبا ورقة خاصة به فالتفتت إلى الدولاب خلفها وفتحته وأخرجت ملفا من ملفات (الكنت) وفتشت في أوراقه الى أن وجدت الورقة المطلوبة، اخرجتها من الملف ووضعتها في آلة التصوير على يمينها وأخذت نسخة منها، وقعتها، ثم اخرجت الختم من درج المكتب وختمتها وسلمتها إلى الموظف. أرجعت الورقة في مكانها في الملف، والملف إلى مكانه في الدولاب بنظام.
إلى هنا يبدو الأمر عاديا جدا، ولكن إذا قلت لك أن كل ما فعلته من فتحها للمكتب وحتى إرجاعها للملف في الدولاب، كان بأصابع قدميها، نعم كل ما فعلته بأصابع قدميها، وهي حقيقة وليست من نسج الخيال.
زينب محمود الفاخري (41 عاما) ولدت بتشوه خلقي مبتورة الأطراف العلوية، في مستشفى الأطفال بمدينة بنغازي، وكان لممرضات من الجنسية البولندية الفضل الكبير في تدريبها واعتمادها على أصابع قدميها أثناء إقامتها بالمستشفى بحكم اعاقتها، فأصبحت حالة خاصة لهن، يهتممن بكل ما يتعلق بها، وبالذات بوزنها لتستطيع التحكم في ليونة جسمها.
عند بلوغها الرابعة من عمرها كانت زينب تفعل كل شيء ممكن بأصابع قدميها، تأكل، تكتب، تغتسل، تمشط شعرها، تساعد في ترتيب البيت، ودخلت أيضا لحركة الكشافة والمرشدات.
حاولت عائلتها إدخالها لإحدى المدارس الابتدائية دون جدوى لتخوف إدارات المدارس من اعاقتها، فدخلت مضطرة إلى مركز المعاقين بمنطقة الحدائق، حيث تعرضت وبكل أسف للعنف الجسدي، في المكان الذي يفترض أن تجد فيه كل ما تحتاجه، ما أجبر عائلتها على إخراجها منه، إلى أن تمكنت من الدخول لمدرسة الكرامة الابتدائية بمنطقة وسط البلاد.
“[هذي بنتنا] كلمتان عالقتان في ذهني إلى الآن قالها الأستاذ محمد سعيد، والأستاذة عائشة الشبعان، تقول زينب واصفة المعاملة الممتازة التي لاقتها داخل المدرسة، وتضيف: تعلمت فيها لعب الكرة والجمباز والعزف على آلة الأورج وتحصلت على ترتيب الأول على مستوى ليبيا في العزف عليها عام 1991م”.
وتستطرد زينب قائلة: لا أحب التحدث عن المرحلة الإعدادية التي أحاول نسيانها، وعكس ذلك ما وجدته في مدرسة بنغازي الثانوية من قبل مديرتها الأستاذة عائشة مخلوف التي احتوتني كفتاة مراهقة ولا أنسى معاملتها النبيلة ما حييت.
وتأست زينب عن دراستها الجامعية، فقد دخلت قسم علم الاجتماع في كلية الآداب جامعة بنغازي، ولم تجد أي تعاون أو مساعدة من معظم أعضاء هيئة التدريس مع استثناء القلة منهم ممن وقفوا معي كما تقول.
وتضيف: “من المواقف التي لا تمحى من ذاكرتي ما حدث في المدرج وأمام 350 طالبا عندما تنمرت عليَ الأستاذة المحاضرة يومذاك قائلة عندنا مثل يقول (اللي ما ياكل بيده ما يشبع) معناه حتى الطالب ضروري يقرا ويكتب المحاضرات بيديه، انت كيف تقري وتكتبي بقدميك…! أنتِ ماتلزمينش ومعش تحضريلي”، ولولا دعم ونصيحة أهلي بأن أتقن فن اللامبالاة مع الجميع وأن اهتم بدراستي فقط، لما واصلت مسيرتي في طلب العلم بإصرار وتخرجت، وأتذكر إني في آخر يوم من الامتحانات وأمام قسوة ما عانيته من ظلم وويلات في القسم قلت لزملائي: إن شاء الله ما عاد نشوف القسم ولا المبنى بمن فيه”.
واستطردت زينب قصة التحدي التي تعتبر بطلتها من دون منازع قائلة من المصادفة العجيبة ومن المضحكات المبكيات، أنه بعد أيام قليلة من تتويجي ببكالوريوس علم الاجتماع تفاجأت باتصال من عميد كلية الآداب الدكتور محمد الذويب يقول لي تم توقيع عقد عمل لك بالكلية.
وكشفت وهي تستحضر من الذاكرة فصولا من معاناتها، مؤكدة انها تعرضت لعديد المضايقات في عملها بالكلية ما اضطرها للانتقال من قسم إلى آخر وتوقفت عند انتقالها للعمل في مكتبة كلية الآداب لتشير إلى انها لاحظت ان الكتب كانت مرتبة بشكل بدائي بدون ارشفة، وأطلقت العنان لابتسامة عبرت عن الزهو والانتصار فقالت: الحمد لله كنت أول من قام بأرشفة الكتب في مكتبة كلية الآداب بطريقة علمية.
في عام 2019 تضيف قاهرة الإعاقة زينب الفاخري انها تحصلت على جائزة الموظف المثالي على مستوى المؤسسات الحكومية بترشيح من مدير إدارة الخدمات بجامعة بنغازي عوض الحسوني الا انها عبرت عن استغرابها لحالة الذهول والغضب التي أصابت جميع موظفي الإدارة بسبب ترشيحها لهذه الجائزة.
وأبانت عن جرح آخر بصوت بين الألم والأمل عندما صرحت بأنها أصيبت عام 2020 بالسرطان، غير أنها استحضرت أسلحة الإرادة الصلبة لديها لتقول انها تعاملت مع هذا القاتل الصامت وهي في المراحل الأخيرة من طور الشفاء منه.
وتضيف في ختام سردها لهذه القصة الملهمة للأصحاء قبل ذوات وذوي الإعاقة انها كلفت مديرا لمكتب الخدمة الاجتماعية بجامعة بنغازي في عام 2021 ومنسقة لذوي الإعاقة بوزارة التعليم العالي عام 2022 كما تحصلت على دبلوم الماجستير في علم الاجتماع بتقدير ممتاز وهي تعكف الآن على تقديم رسالة الإجازة العالية [الماجستير] تحت عنوان (بعض العوامل الاجتماعية والاقتصادية وعلاقتها بالتحصيل الدراسي للطلاب ذوي الإعاقة بجامعة بنغازي ـ دراسة مسحية).
واجهت زينب إعاقتها بإرادة صلبة منقطعة النظير ورفعت كافة التحديات وتجاوزت كل العراقيل التي وضعت أمامها من قبل أشخاص مسكونين بإعاقات متعددة على المستوى الإنساني، وانتصرت عليهم وشقت طريقها بنجاح، مدفوعة بالأمل الذي زرعته فيها ممرضات مؤمنات بأن الإبداع ليس حكرا على فئة محددة في المجتمع وقد تكون قصتها التي روتها لوكالة الانباء الليبية أعظم من قصة قاهر الظلام عميد الأدب العربي طه حسين. (الأنباء الليبية بنغازي) س خ
-اعداد: علي طاهر بوسنينة