بنغازي 14 يونيو 2025 (الأنباء الليبية) – وقفت في وسط الميدان المهندسة الشابة سلوى بورقيعة تتأمل مبنى البلدية العتيق الذي يقف شاهدًا على عراقة وأصالة مدينة بنغازي بأعوامه التي تزيد عن 153 عاما، فجميع المباني في وسط البلاد، التي تقابل البحر بشكل مباشر، قد هدمت ضمن مشروع إعادة الإعمار، والبعض الآخر خسرناه نتيجة ارتهان الإرهابيين للمباني في وسط البلاد واندلاع حرب شرسة ضد الإرهاب، وبعض المباني القديمة هُدمت بقرار من النظام السابق.
لم يبق من مبان وسط البلاد الأثرية سوى مبان قليلة جدا لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة، ومن بينها مبنى البلدية الواقع في وسط الميدان، ويجاوره الجامع العتيق.
ويحتوي الميدان على أربع منافذ تقودك إليه: شارع عمر المختار، وشارع سيدي سالم، وشارع سوق الذهب، وزقاق مخلوف، وتحيط بالميدان مبان ذات طابع معماري مختلف عنه، من أهمها الجامع العتيق، بها محلات تجارية بالإضافة إلى شقق سكنية، التي نجت جميعها من آلة الهدم.
مبنى البلدية الذي بني في العهد العثماني وطور في عهد الاحتلال الإيطالي، واستخدم في فترة الحكم الملكي كمبنى إداري خدمي، وأُهمل في العهد السابق، يعتبر إرثا معماريا وتاريخيا مهما لبنغازي وأهلها.
مبني بطراز فريد يجمع بين ثلاث ثقافات مختلفة انصهرت به، يقف المبنى شاهدا على أحداث الميدان وتجمع الأهالي فيه بمناسباتهم الدينية والاجتماعية والسياسية، واُستخدمت ساحة الميدان كمحطة لعربات الكاليس “عربات تجرها الخيول”، ولا تكاد تخلو صورة لبنغازي القديمة إلا ويظهر فيها المبنى.
فقد كانت شرفته المطلة على الميدان مباشرة منبرا للخطابة، واعتلى شرفته المحتل الإيطالي الفاشي موسوليني، ومن ثم الملك الصالح إدريس السنوسي، وكان وجهة لسكان المدينة كونه مقرًا لعمداء البلدية.
المؤرخة المعمارية سلوى بورقيعة، التي كلفت من قبل جهاز المدن القديمة للإشراف على ترميم مبنى البلدية، تُعتبر من الأشخاص القلائل الذين يعرفون قيمة وأهمية المبنى التاريخية.
-ميدان وتاريخ حي
تبدأ المؤرخة بورقيعة بسرد قصة المبنى قائلة: أُنشئ مبنى البلدية في العام 1872، وكان عبارة عن صالة صغيرة الحجم وطابقين وبدروم، له واجهة بسيطة تتكون من مدخل تعلوه شرفة تمتد على طول الواجهة، مظللة بسقف خشبي يستند من الأمام على عمودين، وبُني بالمواد المستخدمة حينها وهي مواد محلية من أحجار طينية وأسقف خشبية من شجر السنور أو أشجار النخيل.
في 1882، قام عميد بلدية بنغازي آنذاك أحمد المهدوي بتوسعة المبنى، حيث قام بشراء المنزل المجاور من مالكه الإيطالي، وهدم المبنيين، وقام ببناء مبنى يتكون من ثلاثة طوابق خُصص جزء منها مكاتب للموظفين وقاعة استقبال وصيدلية.
كما أضيفت على المبنى الجديد شرفة كبيرة أضفت عليه رونقا، وتبين الصور أنها كانت تستخدم في المناسبات من قبل المسؤولين لإلقاء الخطب والبيانات على الجموع التي كانت تحتشد في الساحة.
ويطل المبنى على أربعة شوارع، ويوجد في وسطه زقاق يصل الميدان بالشارع الخلفي، وُجد الزقاق بعد التوسعة التي أضافها الاحتلال الإيطالي للمبنى.
-توسعة وتطور معماري
في فترة الاحتلال الإيطالي، جرت توسعة المبنى في العام 1914، ولم يهدم، حيث بقى الجزء القديم الأوسط، وإضافة الجناحين الشرقي والغربي، إضافة للبرجين.
كما أضيف طابع الحداثة، واستبدلت السلالم الخشبية بأخرى مبنية بالآجر ومغلفة بالرخام بتصميم فريد صنع خصيصا لمبنى البلدية، مع تغيير الأثاث والديكور.
وقام الإيطاليون بالاعتناء بالواجهات وتجميل النوافذ والأبواب، إضافة لأعمدة رخامية وبرجين، كل منهما به ساعتان وجرسان كبيران، وقام معماريون إيطاليون بتصميم الرواق الأمامي والديكور الداخلي، وتصميم الواجهات المعمارية، وصمموا اللوحات الجصية الداخلية، وجلبوا الأثاث الداخلي من شركة دوكروت.
وفي العام 1924، تمت توسعة المبنى وأُوجد زقاق في المبنى يربط بين الميدان والشارع الخلفي الذي يطل على البحر.
في عام 2008، شُرع في صيانة المبنى من قبل مركز تنمية وتطوير المراكز الإدارية، وبالفعل جرى الاتفاق مع إحدى الشركات الإيطالية للترميم وباشرت عملها، وللأسف الشديد، وبسبب خلاف بين الطرفين، انسحبت الشركة الإيطالية وترك المبنى مهملا لسنوات، وفقدنا النوافذ والأبواب الأصلية للأسف الشديد.
-إهمال وأضرار جسيمة
في عام 2011، اندلع حريق في البدروم الذي كان يحتوي على أرشيف سجلات النفوس من عام 1951، وتسبب الحريق في انهيار الأرضية الخشبية للطابق الأول.
وأثناء الحرب على الإرهاب في عام 2015، تعرض المبنى لأضرار جسيمة نتيجة لقذيفة سقطت عليه وتسببت في انهيار الجزء الغربي منه بالكامل، وهو نفس الجزء الذي تعرض للقصف في فترة الحرب العالمية الثانية وتم بناؤه من قبل القوات البريطانية.
-ترميم علمي دقيق
اليوم، يعود المبنى إلى الحياة بفضل مشروع طموح أطلقه صندوق إعادة إعمار درنة وبنغازي بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة، وبمساهمة شركة نجمة العمر للمقاولات العامة، بقيادة المهندس سامح فتحي الشيخ وممثل الشركة المهندس يوسف بسيكري.
وبعد التعاقد مع شركة متخصصة في تقييم المباني، وُضعت قيمة تقديرية واقعية تلائم حجم الأضرار، مما أتاح انطلاق المرحلة الجادة من الترميم.
ويُشكل هذا المشروع نقلة نوعية في منهجية الصيانة، حيث تنفذ المعالجات باستخدام تقنيات علمية غير مسبوقة في ليبيا.
ووفق ما أوضحه المهندس محمد زاهر من شركة رحى للمدن التاريخية – وهي شركة سورية رائدة من مدينة حلب – فقد حقنت الجدران بمادة ربط كلسية لتعزيز تماسُك الحجر واستعادة القدرة الإنشائية للجدران الحاملة. وأكد أن الجير الطبيعي المستخدم يتميز بتوافقه الكيميائي مع مكونات المبنى، مما يمنحه استدامة أعلى مقارنة بالمواد الإسمنتية.
كذلك، جرى استيراد اللياسة من تونس لتلائم التركيبة الأصلية للمبنى، واستُخدم رخام “كرارة” الإيطالي النادر لترميم الزخارف والواجهات، في تجسيد واضح للفخامة والدقة التاريخية.
-صعوبات التنفيذ
أما الصعوبة التي كانت أثناء الترميم هي ما لحق بالمبنى من أعمال صيانة سابقة في فترة ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، حيث يحتوي المبنى على حوائط حاملة وكمـرات معدنية، وحوائط الصوان والطين موجودة ضمن التكوين الأساس للمبنى، بالإضافة لحوائط خشبية.
وتوجد في المبنى أنظمة إنشائية كثيرة، بعضها من أساسيات المبنى، والبعض الآخر أُضيف في فترات زمنية مختلفة، ويمكن التفرقة بين الحقب الزمنية أثناء أعمال الصيانة من خلال المواد المستخدمة لكل حقبة والتعامل مع كل جزء بشكل منفرد.
مساحة كل طابق 2000 متر، وعمل عدد من المعماريين الإيطاليين على التوسعة والصيانة بأعلى مستويات الجودة، لم نتدخل في تغيير فراغات المبنى وحافظنا عليها بمقاساتها وشبابيكها وأبوابها.
-التاريخ يحكي
كما يحتوي مبنى البلدية على عدد من الشعارات المستوحاة من التاريخ، مثل رسومات جدارية لنبات السلفيوم وشجرة التفاح الذهبي، وأيضا تصميم الأبواب مأخوذ من أبواب البيوت القديمة لمدينة بنغازي (باب بوخوخة)، والنوافذ صُممت على الطراز الإسلامي، أُخذت من العناصر المحلية ودمجت مع الهوية الإيطالية التي تظهر في الأسقف العالية وسمك الجدران التي تصل إلى 80 سنتيمتر، تستطيع رفع أطنان من الأحمال عليها، والشرفة أعدنا بناؤها بسبب تهالك الشرفة الأولى وزدنا من سمكها لتصبح 14 سنتيمتر، وزرعناها في أصل المبنى.
المنسوب الأصلي للمبنى 60 سنتيمتر، وفي فترة السبعينات ردم ورفع المنسوب، ولهذا قواعد الأعمدة غير ظاهرة، والحل الوحيد هو وضع قاعدة للعمود تشير إلى وجود القاعدة الأولى.
الرمزية التاريخية لمبنى البلدية كونه يحمل هوية عثمانية وإيطالية وإسلامية اختلطت وتداخلت لتُبرز مبنى أثريا جميلا ومميزا.
واستبدلت الزخارف القديمة المتضررة بزخارف رخامية طبق الأصل، ووضعنا القطع القديمة في البدروم وحولناه إلى متحف لكل القطع التي تم فكها والحفاظ عليها، لكي يستفيد كل طالب علم ليتعرف عن قرب على المواد المستخدمة في البناء تلك الفترة.
وتختتم بورقيعة حديثها قائلة: نحن على أعتاب مرحلة عمرانية جديدة تشهدها مدينة بنغازي بعد المرحلة العثمانية، ومن ثم الإيطالية، وفترة الجمود العمراني بعد الاستقلال، واليوم تبدأ مرحلة جديدة تحمل هوية بصرية مختلفة لا نعرف ملامحها، ولكننا لا نملك إلا أن نستبشر خيرا لواجهة عمرانية جميلة تحافظ على هوية وأصالة مدينة بنغازي.
وتؤكد أن مبنى البلدية يحمل رمزية معمارية خاصة، إذ يجمع بين الطراز العثماني والإيطالي والإسلامي، ويعد تجسيدا لهوية بنغازي وتاريخها المتنوع، في مرحلة جديدة من التطور العمراني تشهدها المدينة. (الأنباء الليبية) س خ.
-متابعة: هدى العبدلي