بنغازي 12 يونيو 2025 (الأنباء الليبية) -داخل زقاق مكتظ بالضجيج، وبين زحمة الحياة اليومية، يدفع الطفل أحمد، البالغ من العمر عشر سنوات، عربة صغيرة مليئة بالمناديل الورقية ومعطرات السيارات.
لم يعرف أحمد صوت جرس المدرسة، ولا مقاعد الدراسة، ولا حصص العلوم والرياضيات، بل بدأ صباحاته بمسؤولية تفوق عمره، وركض يومي لكسب القليل، في سبيل سد رمق إخوته الجياع، كان يحلم أن يصبح مهندسا كما كان جده يردد على مسامعه، لكن الحلم يبدو بعيدا، مكسور الجناح أمام واقع لا يرحم.
قصة أحمد ليست إلا نموذجا صارخا من مئات القصص التي تتكرر في طرابلس وبنغازي وسبها ودرنة وغيرها من المدن الليبية، حيث يتحول الأطفال إلى معيلين صغار، يرتدون لباس العمل قبل أن يتعلموا كيفية تهجئة أسمائهم. هؤلاء الأطفال تركوا فصول الدراسة مرغمين، لا بطولات في قرارهم، بل هروب من جوع، وخوف من مستقبل أكثر عتمة.
فهل يمكن أن تنقذهم التشريعات؟ أم أن الفوضى والأزمات المتكررة ستُبقيهم سجناء في دائرة العمل المبكر القاسي؟
-قوانين على الورق… بلا أجنحة تنفيذ
ليبيا، كغيرها من الدول، التزمت قانونيا بحماية الطفولة، وكانت من أوائل الدول التي صادقت على اتفاقية حقوق الطفل عام 1993، كما صادقت على البروتوكول الخاص بمنع إشراك الأطفال في النزاعات المسلحة، والتزمت باتفاقيتي منظمة العمل الدولية رقم 138 الخاصة بحد السن الأدنى للعمل، و182 المتعلقة بأسوأ أشكال عمل الأطفال.
لكن، ورغم هذه الالتزامات، فإن الهوة لا تزال واسعة بين النصوص القانونية والواقع الميداني. المحامية مباركة حسن توضح أن “التشريعات موجودة ومكتوبة بشكل واضح، منها قانون العمل الليبي الذي يمنع تشغيل من هم دون السن القانونية ويربط بين التعليم والعمل، لكن المعضلة الحقيقية تكمن في غياب الآليات الفاعلة للتنفيذ”.
وتضيف: “لا توجد أجهزة رقابة قوية، البيانات ضعيفة جدا، والجهات المسؤولة في كثير من الأحيان عاجزة عن تطبيق القوانين، لا سيما في المناطق التي تعاني من هشاشة أمنية أو فقر مدقع”.
ويؤيد هذا الطرح خالد سويل، المهتم بقضايا الطفولة، مشيرا إلى أن البنية القانونية متوفرة، “لكننا نحتاج إلى خارطة طريق تنفيذية، وإلى بيانات دقيقة وواقعية لفهم حجم الظاهرة بدقة واتخاذ قرارات صائبة”. ويشدد على أن غياب الإحصائيات يحجب الحقيقة ويعطل الحلول.
-التعليم على الهامش والعمل في الواجهة
في مختلف مناطق ليبيا، لا سيما تلك المتأثرة بالنزاع والنزوح، يتزايد معدل التسرب المدرسي بشكل يدعو للقلق، وكثير من الأطفال يجدون أنفسهم مجبرين على ترك المدرسة، ليس بسبب ضعف التحصيل، بل بسبب الظروف الاقتصادية والأمنية، تصبح المدرسة خيارا مؤجلا، بينما يفتح سوق العمل أبوابه لهم دون رحمة، ودون حماية قانونية، أو تدريب مهني، أو رعاية صحية.
في الشوارع، الورش، الأسواق، وحتى في مواقف السيارات، يمكن رؤية أطفال يكدحون لساعات طويلة، في مهن تتطلب جهدا بدنيا لا يتناسب مع أعمارهم الصغيرة، ولا أجسادهم الغضة. أطفال يقومون بأعمال النظافة، وبيع السلع، وحمل البضائع، وحتى إصلاح السيارات في بعض الورش، معرضين للمخاطر الصحية والنفسية والاجتماعية.
هذا الانخراط المبكر في سوق العمل، لا يؤثر فقط على حاضرهم، بل يهدد مستقبلهم، ويجعل من الصعب، إن لم يكن مستحيلًا، عودتهم إلى المسار التعليمي مرة أخرى.
-العمل المبكر حلا قاسيا
الفقر وغلاء المعيشة وانتشار البطالة عوامل مجتمعة دفعت بالعديد من الأسر الليبية إلى الاعتماد على دخل أطفالها كحل مؤقت للبقاء. الباحث الاجتماعي سالم بوصبع يصف الوضع بقوله:
“في ظل تآكل شبكات الحماية الاجتماعية، وتراجع برامج الدعم الحكومي، لم يعد أمام الأسرة خيار سوى دفع أبنائها للعمل، حتى لو كانوا في سن الطفولة”.
ويضيف: “العديد من العائلات لا تفكر في انتهاك حقوق الطفولة، لكنها مجبرة على البحث عن مصادر دخل إضافية، وأبسطها هو إرسال الأطفال إلى العمل في الأسواق والشوارع”.
ويحذر من تحوّل هذه الظاهرة إلى حالة اجتماعية مبررة ثقافيا، أي أن يُنظر إلى عمل الأطفال على أنه طبيعي ومقبول، ما ينسف مفهوم الطفولة من جذوره.
يشدد “بوصبع” على أن هذه الحالة ستتحول من ظرف استثنائي إلى واقع مستقر إذا لم تعاد هيكلة منظومة الدعم الاجتماعي والاقتصادي، بما يمكن الأسر من الاكتفاء دون التضحية بمستقبل أطفالها.
-الحلول تبدأ بالإرادة وتنضج بالشراكة
مكافحة ظاهرة عمل الأطفال في ليبيا تتطلب رؤية شاملة لا تكتفي بسن القوانين، بل تتطلب منظومة تنفيذية متكاملة تشمل الحكومة والمجتمع المدني والمؤسسات الإعلامية. من أبرز التوصيات التي طرحها المختصون منها: إطلاق مسح وطني شامل لتحديد حجم وانتشار عمل الأطفال، عبر أدوات إحصاء دقيقة وشفافة، وتفعيل التفتيش العمالي في مختلف المدن، وربط المخالفات بعقوبات قانونية فاعلة، وعدم الاكتفاء بالتحذيرات، كذلك ربط الدعم الاجتماعي للأسر بالتزامها بإرسال الأطفال إلى المدارس، وربط ذلك ببرامج تحفيزية للأهالي، وتوسيع برامج الشراكة مع المنظمات الدولية والمحلية المهتمة بحقوق الطفل، وتخصيص موارد مالية لبرامج التأهيل وإعادة الدمج المدرسي للأطفال العاملين، مع ضرورة تفعيل الإعلام في توعية المجتمع بمخاطر الظاهرة، ومكافحة ثقافة القبول بـ “العمل المبكر” كحل مشروع أو اضطراري.
الناشطة في حقوق الطفولة أمينة المصراتي تؤكد أن “كل تأخير في التدخل لحماية هؤلاء الأطفال هو هدر للمستقبل، ليس فقط لأفراد بل لوطن كامل”.
– مسؤولية وطنية
في اليوم العالمي لمكافحة عمل الأطفال، الموافق 12 يونيو من كل عام، تتجدد الدعوة لإنقاذ الطفولة من فخاخ الحاجة، والإهمال، والغياب المؤسسي. الخطابات وحدها لا تحمي الأطفال، ولا الشعارات تُغنيهم عن أقلام وكتب ودفاتر وأحلام.
ليبيا اليوم أمام لحظة فاصلة؛ فإما أن تبني جدار حماية حقيقي حول أطفالها، أو تُبقيهم نهبًا لورشة عمل، أو عربة مناديل، أو شارع خالٍ من الأمل.
فحماية الطفولة ليست ترفا، بل ركيزة لمستقبل الدولة، وضمانة لتماسكها الاجتماعي، واستثمار طويل الأمد في مواردها البشرية.
أحمد ليس مجرد طفل عامل… إنه جرس إنذار يدق بقوة في وجه صمت الدولة والمجتمع معا. (الأنباء الليبية) س خ.
-متابعة: هدى الشيخي